إعلان الهاتف

التدوين عند العرب كل ما تريد معرفته عن هذا العصر

التدوين: يراد به تدوين العلم وكتابته في الكتب والسجلات والدفاتر. وقد زعم بعض الباحثين من المستشرقين والشرقيين أن التدوين عند العرب لم يظهر في الإسلام إلا في أواسط القرن الثاني للهجرة؛ أي بعد انقضاء الدولة الأُموية، وأن التدوين قبلئذٍ لم يكن معروفًا إلا في نطاق ضيق جدًّا، وهو نطاق القرآن وبعض الأحاديث النبوية، وأن العرب لم يدوِّنوا أدبهم إلا بعد أواسط المائة الثانية للهجرة، وكانوا قبل ذلك يتناقلون أدبهم حفظًا ورواية ليس غير، إلى أن جاء العصر العباسي فدوَّنه الكُتَّاب والمؤلفون.
التدوين عند العرب كل ما تريد معرفته عن هذا العصر

التدوين الأدبي

وليس لهؤلاء الباحثين من المستشرقين والشرقيين حجج قوية يعتمدون عليها، وإنما هي أوهام وظنون وأباطيل سار بها بعض الشعوبيين من الكُتَّاب القدماء، فتلقفها المستشرقون وشعوبيو اليوم، ورفعوا بها عقائرهم، ومَلَئُوا بها كتبهم وهدفُهم الأول من وراء ذلك هو التهجُّم على العرب، والطعن في تاريخهم، وهتك حرمة آدابهم، والطعن في صحة ما ابتدعوه قبل الإسلام أو بعده من الحكمة والشعر الخالدَين، وليس قول هؤلاء جميعًا إلا باطلًا في باطل، فإن التدوين الأدبي كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام؛ فقد دوَّن عرب زمن الفترة شعرًا وعلقوه على الكعبة، كما دوَّنوا كثيرًا من مأثور كلام عقلائهم شعرًا ونثرًا، كما دوَّن متهوِّدوهم ومتنصِّروهم في الجزيرة آيات من الكتاب المقدس؛ فإنه لا يُعقل أصلًا أنهم كانوا يؤدون شعائر الدين الموسوي أو النصراني بالعبرية أو السريانية، فإنهم كانوا عربًا يعتزون بلغتهم ويفخرون بلسانهم العربي المبين.

كتب العرب قبل الإسلام

  • وليس هذا القول قولًا جزافًا ألقيناه بدافع العصبية لأجدادنا وتاريخنا وقوميتنا العربية، وإنما هو قول يَعتمد على سنن الكون وأنظمة الحياة؛ فقد كتب العرب قبل الإسلام وكانت لهم حضارة وكان لهم علم وكان لهم أدب، وكانت عندهم كتاتيب ودُور للتعليم على ما فصلناه قبلًا، وقال المرزباني في الموشح في معرض حديثه عن النابغة الذبياني إن العرب في الجاهلية كانوا صنفين؛ أهل البوادي وأهل القرى أي المدن. أما أهل البادية فقد كانوا بدوًا أُميين، أما أهل الحواضر والمدن فقد كانوا متعلمين ذوي حصافة وحِس مرهف، وإن «أهل القرى ألطف نظرًا من أهل البدو، وكانوا يكتبون لجوارهم أهل الكتاب». ولا ريب في أن نصارى الحيرة والشام من المناذرة وآل غسان كانوا ذوي حضارة زاهية وأدب وعلم وكتابة وفهم؛ لأن آثارهم الباقية وقصورهم الشاهقة لَتدل على مبلغ ما سَمَوْا إليه من رُقي، وروى العالم الثقة الثبت العالم ابن جني عن حماد الراوية (؟–١٥٥) أنه قال:
  • أمر النعمان «ابن المنذر اللخمي» (؟–٨ق.ﻫ) فنسخت له أشعار العرب ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار ابن أبي عبيد «الثقفي أمير الكوفة» (؟–٦٨) قيل له إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار؛ فمِن ثَمَّ أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة.

العرب قبل الإسلام

  • فهذا يدل على أن العرب كانوا قبل الإسلام قد دوَّنوا بعض أشعارهم وتراثهم الأدبي الذي يفخرون به ويعتزون باحتوائه. ولا ريب في أن أبا قابوس النعمان إنما فعل ذلك افتخارًا بآثار قومه، وقد كان من الملوك الذين ازدهت بهم الحيرة لعلمه وفضله، ولأنه كان ممن يتذوقون الشعر، وكان بلاطه موئلًا لفحولة الشعراء أمثال النابغة الذبياني، وحسان بن ثابت، وحاتم الطائي، وغيرهم من أئمة الشعر العربي، وهو صاحب قصة إيفاد الحكماء العرب إلى كسرى، وهو باني مدينة النعمانية على ضفة دجلة اليمنى، وليس هذا الخبر مكذوبًا اخترعه حماد الراوية الذي يتهمونه بالوضع، وإنما هو خبر روى مثله أيضًا هشام الكلبي (؟–٢٠٦) المحدِّث الراوية النسابة المشهور الموثق؛ فقد قال: «كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وآل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من ولي مهمة لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة. 
ونحن حين نقول هذا القول لا نقصد أن العلم والتدوين وما إليهما كانا منتشرَين في المدن والقرى العربية قبل الإسلام انتشارًا عامًّا، ولكننا نريد أن ننفيَ القول بفشُوِّ الأمية والجاهلية وسيطرتها، وعدم وجود التدوين عند العرب أصلًا قبل أواسط القرن الثاني للهجرة كما زعم أولئك المستشرقون والشرقيون؛ فقد رأيت أن الكتابة كانت فاشية عند العرب قبل الإسلام، وبخاصةٍ في المدينة ومكة والطائف والحيرة ومدن مشارق الشام العربية ومدن اليمن وحضر موت؛ لأن قومًا كانت لهم تلك الحضارة لا يمكن أن يكونوا أُميين، وما يقال عن عرب ما قبل الإسلام — ولا أبيح لنفسي أن أسم ذلك العهد بسمة الجاهلية — يقال عن عرب صدر الإسلام؛ فقد كانت الكتابة منتشرة في البيئة النبوية في المدينة، وفي العواصم الإسلامية التي شادها العرب في الديار التي فتحوها كالبصرة والكوفة في العراق، والفسطاط والقطائع في مصر، والقيروان في شمالي إفريقية، وفي عواصم الأقاليم التي دخلوها كدمشق وحلب وبيت المقدس والمدائن والري وغيرها.

تحميل كتاب التدوين عند العرب pdf

  • ولتحميل الكتاب pdf من الموقع الرسمي من هنا

علماء الصحابة

  • وكان معلمو الصحابة كأبي الدرداء وأبي ذر وأبي موسى الأشعري وأُبي بن كعب وجبير بن حية، وغيرهم من علماء الصحابة، يحلقون حلق العلم في مساجد العواصم الإسلامية التي يحلُّون فيها. قال سويد بن عبد العزيز: كان أبو الدرداء «عويمر بن مالك الأنصاري (؟–٣٢) قاضي دمشق» إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريف، ويقف في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم يرجع إلى عريفهم وإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك. وقال مسلم بن مشكم: قال لي أبو الدرداء اعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم بأمره ألفًا وستمائة ونيفًا، وكان لكل عشرة منهم مقرئ.
 
 
  • وهكذا كان الأمر في مساجد حلب وبيت المقدس والإسكندرية والفسطاط والبصرة والكوفة، وغيرها من العواصم الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين والأُمويين، فإذا كان هذا عدد الكُتَّاب في العصر الأُموي والراشدي، كان من الطبيعي جدًّا أن يكون لهذا العدد العديد من المتعلمين مدونات وكتب جُمع فيها شيء من تعاليم الدين وحديث الرسول والآداب والعلوم الإسلامية، ولولا وجود هذه المدونات في زمن مبكر لما كره بعض المتزمتين أن يدوَّن غير القرآن؛ خوفًا من اختلاطه بالسنة أو غيرها من الأخبار، وحجة هؤلاء القوم قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحُه.» ومثل هذا قول زيد بن ثابت حين دخل على معاوية وسأله عن شيء من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم أمر كاتبًا له أن يكتبه، فنهاه زيد وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه، فمحاه.
 
  •  ولما رأى أبو سعيد الخدري جماعة من تلاميذه يكتبون الحديث عنه نهاهم عن ذلك وقال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ إن نبيكم (صلى الله عليه وسلم) كان يحدِّثنا فنحفظ، فاحفظوا كما نحفظ.
 
 
  • ولكن بعض هؤلاء المتزمتين أباحوا كتابة القرآن حين وقع الاطمئنان في نفوسهم من أن شيئًا من ذلك الذي تخوَّفوه لن يكون، فأجازوا كتابة الحديث بعد أن كانوا يكرهونه لكيلا يختلط بالقرآن، أو لكيلا يعتمد العالم على الكتاب، بل على حفظه.
 
  • وقد احتج من أباح الكتابة ببعض الروايات التي رُويت عن النبي وكبار الصحابة؛ فمن ذلك ما رُوي عن أبي هريرة أنه أذن لأبي شاة اليمني أن يكتب عنه خطبة يوم فتح مكة. وقال أبو هريرة: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كتب ولم أكتب.
 

وفي العهد الراشدي دُونت بعض المدونات الشعرية أيضًا

  • فقد روى أبو الفرج أن عمر بن الخطاب كتب إلى أميره على العراق وفاتح القادسية وباني الكوفة سعد بن أبي وقاص (؟–٥٥): أما بعد، فاجمع من قبلك من الشعراء فسلهم ماذا فقدوا من شعرهم وما بقي منه. فجمعهم سعد فسألهم عن ذلك فكلُّهم زعم أنه أغزر ما كان شعرًا وأقدر عليه إلا لبيد، فإنه حلف بالذي هداه للإسلام ما قدرت على أن أقول بيتًا واحدًا منذ أسلمت، فكتب بذلك إلى عمر. ومثل ذلك ما ذكره أبو الفرج أيضًا أن عبد الله بن الزبعري السهمي وضرار بن الخطاب الفهري طلبَا من حسان بن ثابت أن يتناشدوا ما قيل من مناقضات بين الأنصار ومشركي قريش في صدر الإسلام، فأنشداه أشعار قريش من الأنصار، ثم ذهبَا قبل أن يسمعَا شعره في قريش، فغضب حسان وذهب إلى عمر بن الخطاب، فجمعهما بحسان وأمرهما أن يسمعَا مناقضته لكفار قريش، فاستمعَا إليه بمحضر عمر وكبار الصحابة، ثم إن عمر قال لمن حضره: إني قد كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئًا دفعًا للتضاغُن عنكم وبث القبيح فيما بينكم، فأما إذا أبَوْا فاكتبوه واحتفظوا به. فدوَّنوا ذلك عندهم، قال: فأدركته — أي ذلك السجل الذي دوَّنوا فيه الأشعار — ومما دُوِّن في عهد عمر بن الخطاب غير هذه الكتب الأدبية دواوين أنساب القبائل العربية، التي أمر عمر بن الخطاب بتدوينها وتسجيل أسماء كل قبيلة وأفخاذها وأسماء من ولد كلٌّ منهم.
 
 
  • وما إن دخل النصف الثاني للقرن الهجري واستولى بنو أمية على الخلافة الإسلامية حتى كثر التدوين في الأدب والحديث؛ فقد روى لنا المُبَرِّد عن المعلمَين الشاعرَين المشهورَين؛ الكَمِيت بن زيد، والطِّرِمَّاح بن حكيم، عن رؤبة بن العجاج أنه قال: قدمت فارس على إبان بن الوليد البجلي منتجعًا له، فأتاني رجلان لا أعرفهما، فسألاني عن شيء ليس من لُغتي فلم أعرفه، فتغامزا بي فتقبَّعت عليهما فهمدا، ثم كانا بعد ذلك يختلفان فيسمعان مني الشيء فيكتبانه ويُدخلانه في أشعارهما، فعلمت أنهما ظريفان، وسألت عنهما فقيل لي هما الكميت والطرماح.
 
 
  • فلا شك في أن العالمَين الشاعرَين الأديبَين المعلمَين كانا يدوِّنان ما يسمعان من رؤبة ومن غيره ما يستجيدان من الشعر والغريب وأخبار العرب. ويروي الإمام الرَّاوية الثقة أنه رأى الطرماح بسواد الكوفة وهو يكتب ألفاظ النبيط ويتعلمها ويُعربها ويُدخلها في شعره، وأغلب ظننا أنه كان ينتقي الألفاظ الفنية والعلمية فيُعربها ويُدخلها في شعره، وقد كان الطرماح وزميله الكميت شاعرَين فحلَين من فحول شعراء الإسلام وأجودهم معانيَ وأحسنهم صورًا، ولم يكن هذان الشاعران وحدهما اللذَين دوَّنا شعرهما في العصر الأُموي؛ فقد روي أن الفرزدق كان يدوِّن شعره وقد كان له أربعة رواة يكتبون شعره عنه ويدوِّنونه ويذيعونه عنه، وكذلك كان جرير يدوِّن شعره، بل يروي صاحب الأغاني أن بعض موالي بني كُليب بن يربوع — وكان بائعًا للرطب في البصرة — يدوِّن شعره، قال: كنت أجمع شعر جرير وأشتهي أن أحفظه وأرويَه، فجاءني جرير ليلةً فقال إن راعيَ الإبل النميري قد هجاني وإني آتيك الليلة فأعدَّ لي شواء وفراشًا ونبيذًا محشفًا، فأعددت له ذلك، فلما أعتم جاءني فقال: هلم عشاءك. فأتيته به فأكل ثم قال: هلم نبيذك. فأتيته به فشرب أقداحًا ثم
    قال: هات دواة وكتفًا. فأتيته بهما فجعل يُملي عليَّ قوله:
 
  • أقِلِّي اللومَ عاذِلَ والعِتابا
  • وقولي إنْ أصبتُ لقد أصابا
ويروي أبو الفرج أن رجلًا من الأنصار لاحق عدي بن الرقاع العاملي (؟–٩٥) معاصر جرير وشاعر الوليد بن عبد الملك وقال له: اكتب لي شيئًا من شعرك. فقال عدي: ومن أي العرب أنت؟ قال: أنا رجل من الأنصار. قال: ومن منكم القائل:
  • إن الحمام إلى الحجاز يهيج لي
  • طربًا ترنمه إذا يترنم
 
فقيل له: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. فقال: عليك بصاحبكم فاكتب شعره فلستَ تحتاج معه إلى غيره.
  • ويروي المرزباني أن ذا الرُّمَّة (؟–١١٧) كان يكتب وأن عيسى بن عمر قال: قال لي ذو الرمة: أنت واللهِ أعجب إليَّ من هؤلاء الأعراب؛ أنت تكتب وتؤدي ما تسمع، وهؤلاء يهون على أحدهم وقد نحته من جبل أن يجيء به على غير وجهه. قال قلت: إني لم أصل منك بشيء. قال: كنت مشغولًا، عُد إليَّ. فعدت إليه فتعاييت في شيء فتهجَّاه لي فقلت: أراك تكتب يا أبا الحارث. قال: إياك أن يعلم هذا أحد، تعلمت الخط من رجل كان عندنا بالجَفَر، فكان يجلس إليَّ من العتمة إلى أن ينكفت السامر يخط لي في تراب البطحاء. وقال شعبة بن الحجاج (؟–١٦٠): لقيت ذا الرمة فقلت أَكْتِبْنِي شعرك، فجعل يملي عليَّ ويطلع في الكتاب فيقول: ارفع اللام من السين وشق الصاد، ولا تعور الكاف، فقلت من أين لك الكتاب؟ قال: قدم علينا رجل من الحيرة فكان يؤدب أولادنا فكنت آخذ بيده فأُدخله الرمل فيعلمني الكتاب، وأنا أفعل ذلك لئلا تقول عليَّ ما لم أقل. ولم يكن الشعراء وحدهم هم الذين يدوِّنون؛ فقد دوَّن كثيرون في العصر الأُموي خُطب الخطباء وأقوال الحكماء كخطب الحجاج وزياد وغيرهما، وكان للخلفاء الأُمويين كالوليد بن عبد الملك والوليد بن يزيد خزائن فيها كثير من الدفاتر والكتب التي سُجلت فيها كتب العلم والأدب والشعر، ويحدثنا صاحب الأغاني أن عبد الحكيم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجُمَحي (؟–حوالي سنة ١٠٠ﻫ) قد اتخذ بيتًا فجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل من الجدار أوتادًا، فمن جاءه علَّق ثيابه على وتد منها ثم جرَّ دفترًا فقرأه أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم، وأن الأحوص الشاعر (؟–١٠٥) قد زار هذا البيت بدعوة من صاحبه عبد الحكيم.

التدوين في المصنفات الأدبية

ولم يقتصر التدوين على الشعر والأخبار كما أسلفنا، بل يظهر أن جماعة من العلماء ألَّفوا بعض المصنفات الأدبية؛ فهذا صحار بن العباس العبدي ألَّف في عهد معاوية بن أبي سفيان كتابًا جمع فيه أمثال العرب كما يذكر ذلك ابن النديم في الفهرست، وهذا عبيد بن شرية الراوية الإخباري المشهور، وعطاء بن مصعب الراوية المحدث الأديب، والشرقي بن القطامي الأديب النسابة الإخباري، ويونس بن سليمان الكاتب الأديب (؟–حوالي سنة ١٣٥)؛ يؤلفون الكتب والمجموعات في الأدب والنسب والأخبار والأمثال والأغاني، وهذا زياد بن أبيه الأمير القائد المشهور يؤلف كتابًا في المثالب يتهجَّم فيه علي من عيَّروه، ثم جاء من بعده الهيثم بن عدي فألَّف في المثالب لأنه كان دعيًّا، فأراد أن ينتقص أهل الأنساب والأشراف، ثم جاء بعدهما النضر بن شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي (؟–١٣٢) وألَّفا كتاب الواحدة في المثالب. فهذه الكتب كلها قد أُلِّفت في العصر الأُموي وتناقل الناس أخبارها كما روَوْا بعض الأخبار مما ورد في فصولها. ومما أُلِّف في هذا العصر الأُموي أيضًا من الكتب غير ما سلف ذلك الديوان الضخم الذي جُمعت فيه أشعار العرب وأخبارها وأنسابها؛ فقد روى ابن النديم عن أبي العباس ثعلب النحوي أنه قال: جَمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها الوليد بن يزيد بن عبد الملك ورد الديوان إلى حماد وجناد.

التدوين في العصر العباسي

  • هذه نبذة عن حركة التدوين قبل الإسلام وبعده إلى أواخر العصر الأُموي. أما في العصر العباسي، فقد انتظمت تلك الحركة بشكل تام واتبعت طريقة علمية صحيحة في ذلك ووضعوا لها القواعد ورتبوها ونظموها، كما فنَّنوا أصول الكتابة وقواعد النسخ والتدوين وطرائق الخط وأساليب التأليف. قال ابن جماعة الكناني: ويُشترط فيمن نصَّب نفسه للتدوين والتصنيف أن يكون تام الأهلية كامل الفضيلة. إلى آخر الشروط التي اشترطها، وقال الخطيب مبينًا فضائل التدوين إنه «يثبت الحفظ ويذكي القلب ويشحذ الطبع ويجيد البيان، ويكسب جميل الذكر وجزيل الأجر.» وقال ابن جماعة في بيان ما يجب على المؤلف والمدوِّن البداءة به: «والأَوْلى أن يعتنيَ بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يسبق إليه تصنيفه متحريًا إيضاح العبارة في تأليفه معرضًا عن التطويل المُمل والإيجاز المُخل، مع إعطاء كل مصنف ما يليق به، ولا يخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه، وبين الناس من ينكر التصنيف والتأليف في هذا الزمان على من ظهرت أهليته وعُرفت معرفته، ولا وجه لهذا الإنكار إلا التنافس بين أهل الأعصار …» وقد اشترطوا في التأليف منذ فجر عصر التأليف أن يبدأ الكتاب بالبسملة ثم يكتب «قال الشيخ» ويذكر اسمه، ثم يشرع في الكتابة والتدوين، وإذا فرغ من كتابه ختمه بالحمدلة والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) وبقوله «آخر الجزء الأول والثاني ويتلوه كذا وكذا» إن لم يكن أكمل الكتاب، فإن أكمله فليقل «كمل الكتاب الفلاني» وكلما كتب اسم الله أتبعه بالعظيم، وكذلك اسم النبي، ولا يكتب «صلعم» ولا «صلسم»، وكذلك إذا ذكر أحدًا من الأعلام، ولا يهتم بتحسين الخط بل بصحته وتصحيحه، ويتجنب خط التعليق وهو خلط الحروف التي ينبغي تفريقها، كما يتجنب خط المشق — هو الخط المستعجل المتلاصق الكلمات — وشر القراءة الهرذمة وأجود الخط أبينه، ولا يكتب الكتابة الدقيقة إلا إذا كان فقير الحال عاجزًا عن ثمن الورق، أو رغبة في حمل الأسفار، ويكتب بالحبر الأسود الثابت لا بالمداد الملوَّن، وربما كتبوا بعض كتب العلم منذ زمان مبكر جدًّا بماء الذهب؛ فقد ذكر السمعاني أن أحمد بن مهدي قال: أردت أن أكتب كتاب الأموال لأبي عبيد فخرجت لأشتريَ ماء الذهب فلقيت أبا عبيد، فقلت يا أبا عبيد إني أريد أن أكتب كتاب الأموال بماء الذهب، فقال اكتبه بالحبر فإنه أبقى. كما اعتنَوْا منذ القديم بالحبر والمحابر والأقلام والكواغد والمعالم والسكاكين والمقاطِّ والألواح والتجليد، وغير ذلك من أدوات الكتابة وعدد الكُتَّاب، وألَّفوا في ذلك الكتب، ومن أقدم ذلك كتاب أدب الكُتَّاب للصولي، وطراز الذهب في أدب الطلب لابن السمعاني — وهو مفقود — وكتاب أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني أيضًا، الذي نشره المستشرق ويسملر، وكتاب المعيد للعلموي.
  • المصدر: كتاب: التربية والتعليم في الإسلام تأليف: محمد أسعد طلس
google-playkhamsatmostaqltradent