إعلان الهاتف

رواية غير قابل للحب - منال سالم - الفصل الثالث (3)

الصفحة الرئيسية
رواية غير قابل للحب بقلم للكاتبة المتميزة منال سالم الفصل الثالث (3)
نتمنى لكم قراءة ممتعة على مدونة كلام كتب للقراءة والتحميل (PDF)
رواية غير قابل للحب

ملحوظة: للوصول أسرع إلى الرواية أكتب في جوجل (أسم الرواية + مدونة كلام كتب) 

الفصل الثالث (3) من رواية غير قابل للحب 

اشتدت ذراعه على خصري، كان يضغط على ظهري بقسوة، محاولاً إلصاقي بجسده عنوة، وكنت نافرة منه حد الاشمئزاز، شعرت بالقشعريرة تنتشر في بدني، درتُ بنظراتي باحثة عمن ينجدني، الكل مشغول بمراقصة رفقائهم؛ ناهيك عن الموسيقى الصاخبة التي لن تسعفني؛ الحقيقة المريرة لن أجد من يساعدني، استحوذ كليًا عليّ، وبقدر استطاعتي جاهدت لأبعده عن ملامستي؛ لكن الحقير "لوكاس" تعمد مداعبة ظهري بأصابعه الغليظة، ليضمن سيطرته على انتباهي، تجمدت عيناي على وجهه القاسي حين نطق يهددني بنبرته التي تجفل بدني، وتلك النظرة المميتة تتراقص في عينيه:
-لن تنجي بفعلتك يا قاتلة أبي.
استجمعت جأشي لأظهر بمظهر القوة أمامه، واحتججت على ذلك اللقب الشنيع قائلة له:
-أنا لا أعرف من هو والد، لما لا تحل عن رأسي؟
كركر ضاحكًا باستمتاعٍ أرعبني وهو يدمدم بنبرة واثقة للغاية:
-لن يحدث!
تلك اللحظة التي توقفت فيها الموسيقى، حيث يتبدل الثنائيات، كانت فرصتي المثالية للنجاة من أحضانه المقيتة، دفعته في صدره بقبضتي، بقوةٍ لا أعرف من أين جاءت، لأتحرر منه، واستدرت بجسدي قاصدة الهروب من محيطه؛ لكن تلقفني صدرًا آخرًا، صلبًا للغاية، قوته من النوع الذي يثير الرهبة في أشد الرجال خشونة، حاوطني في غمضة عين، وأصبحت أسيرة ذراعيه، وكلتا يداي ترتكزان على جانبي كتفيه، رفعت رأسي لأتطلع إلى وجهه، وكان أكثر من أخشــاه في الوقت الحالي؛ "فيجو". شعرت بجفافٍ موتر يصيب حلقي، برزت عيناي في قلقٍ، أكاد أشعر بحركتهما العصبية، لف الدوار رأسي قليلاً، من الحركات المفاجئة المتعاقبة علي، شعرت برائحته المميزة تجتاح أنفي، بتُ استنشق الهواء الملوث بعطره،؛ وإن كان باهظ الثمن، لكنه محمل بسمات الرعب، والرهبة. لم يبتسم لي، وقال بصوته الرخيم، وهو يجبرني على التمايل مع النغمات الراقصة:
-قُلت لكِ، ستأتين إليّ طوعًا.
نظرت له بعينين تستجمعان الغضب بسبب كلماته الاستفزازية تلك، ونفيت ما اعتبرته اتهامًا بما يشبه المهاجمة:
-لم يحدث، أنت من تتربص بي!
بالطبع أنا لم أقصد الذهاب إليه، كان هو من ظهر من العدم واعترض طريقي، ولحظي العثر سقطت في أحضانه، نظر لي بغرابة اقشعر لها بدني، على ما يبدو كلاهما يتسليان بإرهابي، وكنت ضائعة في مخاوفي، وبدلاً من استجدائي لعطفه، وجدت نفسي أنفجر فيه صارخة بنفاذ صبرٍ، وقد تقلصت عضلات وجهي:
-ماذا بك أنت وذلك الحقير؟ أتحاولان إخافتي؟
حدق في مليًا بنظراتٍ لم أفهمها، ولكني واصلت القول معترفة بصدقٍ:
-حسنًا لقد نجحتما في هذا!
لم يبعد عينيه عني، وهو يعقب ببرود مما جعل قشعريرة أخرى مقلقة للغاية تمر عبر جسدي:
-أنا لن أفعل بكِ أي سوء.. حاليًا.
لم أكن متأكدة من استمرار صمودي أمام ما أواجهه من ضغوطات مرهقة، شحذ كل ما أملكه من قوة، ودفعته هو الآخر بقساوة من صدره، لأشير بعدها بسبابتي نحوه، وأنا ألعنه:
-لتحترق في الجحيم، كلاكما!
كنت أوجه لعناتي له وللحقير الآخر، بتشنجٍ، وانفعال، وانعكس تبعات ذلك على لون بشرتي الذي تخضب بحمرة مشتعلة. توقفت الموسيقى عن اللعب مجددًا، وبقيت محدقة في وجه "فيجو" مترقبة ردة فعله؛ لكن لم يرف له جفن، بقي في مكانه، يتطلع إليّ بنظراته القاتمة، جفلت، وشعرت بانقباضة موترة تعصف بصدري، أبعدت عيناي عنه، لأحرك بعدها رأسي في يأسٍ، وأنا أردد لنفسي بحنقٍ، محملة والدتي اللوم كله:
-يا ليتني لم أحضر إلى هنا.. الخطأ منذ البداية لـ"صوفيا"، كان يجب أن أصر على رفضي، على الأقل كنت تخلصت من كل ذلك الرعب.
لم أنظر للخلف مرة أخرى، واخترقت باندفاعٍ متعصب التكتلات البشرية لأهرب من نظراته التي حتمًا لم تفارقني.
.......................................................
رفرفت بجفناي بحركة عصبية، لأنفض العبرات التي تسللت إلى عيناي، وأنا أسير عبر الممر المعبد بالحجارة، كنت سريعة البكاء حين تتأزم بي المواقف، ولم أحبذ أبدًا أن يظهر ضعفي أمام الغرباء، تسللت بعيدًا عن الحشد المنغمس في الحفل باحثة عن متنفس منعزل عمن حولي، توقفت في منتصف الممر، وقد ظهرت الحيرة جلية على محياي، لم أرغب في المجازفة بالتجول في ذلك المكان الذي أجهله، لذا غمغمت بغيظٍ:
-اللعنة عليهما!
تلفت حولي كالضائعة؛ لا أرغب حتى في سؤال أحدهم، لحسن حظي تجمدت نظراتي على شيء بعينه، بدا الخيار المتاح –والآمن- التوجه للخليج؛ كان على مسافة قريبة مني، لهذا تحركت صوبه بخطواتٍ أقرب للركض، حتى بدا صوت فرقعة حذائي كالطلقات. وما إن أصبحت أمامه حتى أغمضت عيناي، واستنشقت بعمقٍ الهواء المنشع الذي اقتحم صدري بقوة ليبدد ما يحرق داخلي، تركت للنسمات المنعشة كامل الحرية للفح وجنتاي، والعبث بخصلاتي الفوضوية. فتحت عيناي، ونظرت مجددًا للمنظر الخلاب الذي احتل المشعد أمامي، والحق يُقال تناسيت مع زرقة المياه ما اجتاحني من غضبٍ وخوف.
ودون إعادة تفكيرٍ، انحنيت للأمام، ثم انتزعت حذائي عن قدماي، اعتدلت في وقفتي، وأمسكت بفردتي حذائي بيدي اليمنى، وتأهبت حواسي كليًا لأقوم بهذا التصرف الصيبياني، بلعت ريقي وأنا أخطو بنزقٍ على السطح الرملي، شعرت بتلك الخفقة المرحة تداعب قلبي حين تجرأت لفعل ذلك، خطوة أخرى أحرزتها، وتركت للرمال الدافئة الفرصة للتخلل بين أصابعي، نطقت بتنهيدة متمهلة مليئة بالاشتياق:
-أوه! رائع!
حركت أصابع قدماي لأتأكد من غمرها أكثر بالرمال، وتغمدني شعورًا عظيمًا بالراحة والصفاء، ازداد إحساسي بالاسترخاء كلما تقدمت بضعة خطوات نحو الشاطئ، انغرزت قدماي أكثر بين الكثبان الرملية البيضاء، وتضاعف حماسي ليطغى بقوة على خوفي، كما أنعش ما أقوم به من حركات طفولية -خلال ركلي للرمال- ذاكرتي، ولاحت ومضات خاطفة في مخيلتي نشطت عقلي بما كنت أفعله فيما مضى على الشاطئ، ينقصني فقط أن أحضر الدلو والجاروف لأبدأ مهمة بناء القلعة، ضحكت لعفويتي وبراءة ذكرياتي مرددة لنفسي:
-يا إلهي! ليتني أعود لتلك الأيام الجميلة!
أدرتُ نظراتي بتمهلٍ متأملة تفاصيل المكان الجذابة، كان يحظى بخصوصية واضحة، ليس من المسموح لأحد بالتجول فيه، استدرت برأسي للجانب الآخر، ورأيتُ ممرًا خشبيًا على يســاري، استقرت نظراتي عليه، كان مخصصًا للسير، يعلوه حواجز جانبية تتيح للسائر التوقف، والاستناد على حوافها، حتى تصل به لمسافة لا بأس بها بداخل مياه الخليج، دون الحاجة للسباحة، أو استقلال أي وسائل النقل المائية للتواجد في مياهه المشوقة. فكرت في الاتجاه إليه، كان مثاليًا لعزلتي، حتمًا لا أريد السير على الشاطئ، فيلمحني أحدهم؛ خاصة أحد أفراد عائلة "سانتوس"، أردت البقاء بعيدة عن أي تطفلٍ غير مرغوب منهم، وبالتالي تعززت تلك الفكرة اللطيفة بداخلي، وقلت مشجعة نفسي:
-ولما لا؟ يبدو المكان ساحرًا من الأعلى.
واصلت السير في اتجاه الممر، وأنا أحرر خصلات شعري من عقدتها، رغبت في الشعور بالحرية؛ وإن كان يعني ذلك التخلي عن هيئتي المهندمة.
دقائق، وكنت أخطو برشاقة على الألواح الخشبية، سمعت صريرها؛ وكأنها تعبر عن فرحتها بقدومي، نظرة شمولية ألقيتها على اللون الأزرق المحبب إلى نفسي، ثم تخليت عن جديتي، وجلست في منتصف الممر، عند الحافة، حذائي إلى جواري، وساقاي تتدلى للأسفل، بالكاد لامست أصابع قدماي صفحة المياه المتلألأة بأشعة الشمس الدافئة، حين تحركها برقةٍ حذرة نسمات الهواء المُلطفة، حملقت بشرود، وابتسامة حمقاء تعلو ثغري، كنت أحاول الاستمتاع بسحر الطبيعة بعيدًا عن أي مظاهر مزعجة.
..............................................................
استغرقت في تأملي معتقدة أني بمفردي، في جنتي الخاصة، إلى أن زكم أنفي رائحة عطرٍ قوية، تنم عن شخصية مهيبة، لا يُستهان بها، اختلطت بالهواء، وعبقته برائحته الذكورية الموترة. تصلبت في مكاني، وانقبضت أناملي على حافة اللوح الخشبي الجالسة عليه، وقد بادر بسؤالي؛ دون أن أكون بحاجة لتخمين هويته:
-جميل، أليس كذلك؟
كان سؤال "فيجو" تقليديًا، مباشرًا، إجابته متوقعة؛ لكن بالنسبة لي بدا مقلقًا، لم ألتفت نحوه، رغم يقيني بأنه يقف خلفي، وعلقت بفظاظة، عله ينصرف:
-وما شأنك؟
تعجبت من صمته على ردي، ولم أكترث بتبعات ما تفوهت به، ربما سيحاسبني على وقاحتي، أو يستل خنجره من غمده وينحر عنقي، أو يضع طلقة نارية في رأسي الأهوج، الحقيقة أني وضعت العديد من المقترحات الدموية؛ لكنه أفشل سيناريوهاتي العنيفة، وظل بلا حراك للحظات بدت بطيئة للغاية. تابعت بنظراتٍ حذرة حركة ظله المنعكس على المياه، وأيقنت أنه غير مساره ليبدو أكثر قربًا مني، اتجه إلى الجانب الأيمن، واستند بظهره على حافة السور الخشبي، وركز كامل نظراته عليّ، توقعت قيامه بذلك دون أن أجرؤ على رفع رأسي نحوه للتأكد، آثرت التحديق في المياه، واحتفظت بسكوتي إلى أن فاض بي الكيل، سيظل متواجدًا ما لم أصرفه، لذا أنهيت عزوفي عن الحديث معه متسائلة بحدةٍ:
-ألن تحل عني؟
أتاني جوابه واضحًا، وقاطعًا، بنفس صوته الجاف:
-لا.
استخدمت قبضتاي لأنهض من مكاني، مد ذراعه بلباقةٍ لمساعدتي، ضاقت نظراتي في حنق، ورفضت الاتكاء عليه، تجاهله عن عمدٍ، واعتدلت في وقفتي. هنا لاحظت فارق الطول الكبير بيننا، بدون حذائي، بالكاد تصل قمة رأسي إلى كتفه. تجاوزت عن شرودي السريع، ورمقته بنظرة حادة، نارية، ركزت فيها كرهي على وجهه المختبئ خلف نظارته القاتمة، ثم صرخت به:
-ماذا تريد مني؟ هيا! أخبرني.
رفع أنفه للأعلى في إباءٍ مغتر، وكتف ساعديه أمام صدره، ليجيبني بعدها بكلمة واحدة، جعلت رجفة عجيبة أخرى، محملة بالوخزات الموترة، تتفشى في أوصالي:
-أنتِ!
باغتني رده، فاتسعت حدقتاي في صدمة، انقبضت عروقي، ورددت مستنكرة بشدة؛ وكأني أهاجمه:
-نعم؟ أنا؟ هل جننت؟
لاحت على شفتيه ابتسامة مستخفة وهو يرد بغموضٍ، ضاعف من غيظي:
-ليس بعد.
نظرت له شزرًا، وتابعت هجومي الهازئ به:
-يبدو أن الخمر لعب برأسك..
ثم أشرت له بيدي، وكأني أصرف أحد الخدم، حين أكملت:
-رجاءً، اذهب أيها السكير، قبل أن أخرج عن تهذيبي، وصدقني لن تسمع ما يرضيك.
لاحظت تبدل تعابيره للوجوم، يبدو أن كلامي اللاذع استفزه، استقام في وقفته، وأكاد أشعر أن طوله قد تضاعف، خطا قبالتي قائلاً بلهجة بددت مظاهر الشجاعة الواهية التي استحوذتني قبل قليل:
-لن أذهب.. قطعة السكر!
تراجعت بتلقائيةٍ للخلف، وأنا أنهره:
-لا تناديني بهذا اللقب، لا يحق لك يا هذا.
قصدت التقليل من شأنه بأسلوبي الحاد في حوارنا، ومع هذا وجدته يرد بغموض زاد من رهبتي:
-لي كل الحق فيكِ، وأنتِ هنا بسبب زعيم عائلتك.
على الفور نطقت متسائلة، وما زالت الصدمات تتوالى على رأسي:
-أتقصد خالي "رومير"؟
بهزة بالكاد تراها من رأسه أجابني:
-نعم..
سألته في نفور محتج:
-كيف هذا؟
دس يديه في جيبه، وقال بعنجهية وترتني:
-يبدو أن خالك لم يتحدث معكِ بعد.
تابعت بحركة لا إرادية من عيناي انخفاض ذراعيه، واختفاء قبضتيه بداخل سرواله الداكن، عدتُ لأرفع نظراتي للأعلى، فلاحظت حامل الأسلحة الذي يرتديه على صدره؛ كان يحوي سلاحين ناريين على كل جانب، وهناك جرابًا مخصصًا للخنجر بالقرب من حزام بنطاله الجلدي، كيف لم أنتبه لهذا؟ ربما لكونه قد نزع سترته، فظهر ما يخفيه ورائها من شر مهلك، تداركت نفسي، وسألته بنفس الدرجة من الحدة في صوتي:
-ولماذا أسأله؟ أنت موجود هنا، فأخبرني.
حرك رأسه للجانبين بشكلٍ روتيني، وأجاب على مهلٍ ضاغطًا على الكلمة الأخيرة:
-حسنًا، أنتِ متورطة في مقتل عمي، وآ....
قاطعه نافية تكرار ذلك الاتهام الدموي عني:
-لا تقل هذا، أنا لم أقتل أحد! ولا أعرف عمك هذا، فكيف لي صلة بقتله؟
تابع "فيجو" موضحًا حين رأى عصبيتي الأقرب للجنون:
-حدث ذلك قبل سنوات.
هتفت صائحة بصوتٍ تعمدت أن يبدو غليظًا رغم اهتزازه، وأنا أحذره بسبابتي:
-لم أقتله يا هذا...
صحح لي مقاطعًا حديثي قبل أن استأنفه بابتسامة متعجرفة:
-"فيجو"، أنا أدعى "فيجو"، لا تنسي اسمي، يا قطعة السكر!
اغتظت من تكرار ترديده للقبي المفضل بهذا الأسلوب الساخر؛ وكأن له كامل الحق في تداوله على لسانه، لذا استحقرته بصوتي الغاضب:
-أيًا كان اسمك، لا يهمني! أنا لم أحضر إلى "شيكاغو" مطلقًا، حتى في العطلات لا أتي إلى هنا أبدًا، أقيم في "ميلانو".. وخالي من يأتي لزيارتنا، هل هذا واضح بالنسبة لك؟
أتى من خلفي صوتًا غليظًا نعتني بشراسة جعلتني أنتفض قافزة:
-كاذبة!
التفت كليًا نحو مصدره، فرأيت "لوكاس" مقبلاً نحوي بخطواتٍ أقرب للاندفاع؛ وكأنه ينتوي الفتك بي، لعقت شفتاي، وهمهمت بقلب خفق في فزعٍ:
-أنت؟!
تنحيت للجانب، لأستند على حافة الحاجز، وأنا أموت رعبًا من بطشه الأهوج الموجه قبلي، خاصة وهو يهتف مؤكدًا لما يخبرني به حدسي من قرب هلاكي على يده:
-نعم، أيتها القاتلة!
تخطاني "فيجو" ليقف قبالته، حجبه عني بجسده العريض، مانعًا إياه من الاقتراب مني، ثم هتف يحذره بصيغة آمرة:
-"لوكاس"! دعني أتحدث معها.
رد محتجًا بتذمرٍ:
-لا تفاوض مع القاتلة.
أصابني الاستياء من منحي ذلك اللقب الملفق، الذي لا صلة له بي، وصار عقلي يرفض السماح بسماعه، انتفضت مدافعة عن نفسي، وخرجت من القوقعة التي كدت أحبس فيها نفسي، ظهرت أمام عينيه اللاتين تقدحان شرًا، نظرت له بشجاعةٍ، وسألته بما يشبه التحدي:
-أنت ما مشكلتك معي؟
ببساطةٍ جاوبني "لوكاس"، بنبرة متهكمة، تزدريني، مقللة من شأني؛ وكأن هذا أسلوب حياته المعتاد:
-أريد قتلك! هذا كل ما في الأمر... يا حلوة.
رأيت "فيجو" وهو يضع ذراعه على صدره ليستوقفه، وقد بدا على وشك التحرك في اتجاهي، قبل أن يأمره:
-"لوكـــاس"، اصمت.
-لا أستطيع..
همهمات خافتة دارت بينهما، لم أتبين ماهيتها، لكن على الأغلب كان "فيجو" يحاول تثبيط عزيمة "لوكاس"، لكن انفلتت منه سبه مسيئة، ونظراته مثبتة عليّ:
-تلك العاهرة تستحق القتل.
غلت الدماء في عروقي لإهانته الفجة، وبدلاً من التزامي الصمت، حفاظًا على حياتي، تشدقت ساخرة منه، بجمل متعاقبة، لا أعرف من أين انطلقت، فقط لأرد اعتباري:
-أتعلم شيئًا؟ أنت أجبن من أن تقتل عاهرة رخيصة، وليس أنا يا هذا، فأنت لست أكثر من كتلة عضلات متحركة على قدمين، يعلوها رأسٍ كبير أحمق، لا يفكر أبدًا.
اصطبغت حدقتاه باللون الأحمر وهو ينهرني بأنفاسه الهادرة:
-اصمتي يا (...)
لفظ نابي آخر نعتني به، فرددت محتقرة إياه، باستخفافٍ ظاهر على تعابيري، ونظراتي نحوه:
-هذا أكثر ما تستطيع فعله، اللعن .. أيها الحقير.
حذرني "فيجو" بوجه غائم:
-لا تختبري صبره!
التفت نحوه لأقول باستبسالٍ أتعجب منه:
-وإلا ماذا؟
رمقني "فيجو" بنظرة لم أفهمها، لكنها كانت مظلمة للغاية، ومع هذا باعدت عيناي عنه لأتطلع للوغد الآخر، وهتفت به برعونة واضحة:
-هيا أرني شجاعتك أيها الحقير!
انتفض "لوكاس" دافعًا "فيجو" ليتجاوزه؛ لكن ظل الأخير كالسد المنيع يحول دون اقترابه مني، سمعته يطلب منه بصوته الأجش الخشن:
-اهدأ، لا ترتكب أي حماقة.
تحركت من مكاني لأغدو قبالة "لوكاس"، وتمتمت بنفس الكلمات الهوجاء لاستثير غضبه:
-إن كنت تريد تصفية حسابك معي، فهيا، أنا لا أخشاك!
توهمت بإظهاري لشجاعة غير موجودة سأردعه، للأسف كنتُ مخطئة، فرأيت قبل أن تطرف عيناي يده وهي تسحب من داخل سترته الداكنة شيئًا ما، اتضحت ملامحه حين استقرت فوهة سلاحه على وجهي، وصوته الشرس يردد عاليًا:
-كما تريدين.
انقبض قلبي جزعًا بعنف آلمني، وهربت الدماء المستثارة من عروقي، وبات مذاق الموت حاضرًا وبقوة على لساني، تخشب جسدي بالكامل، وأنا أراقب احتدام النقاش بين الاثنين، صوت "فيجو" كان غليظًا صارمًا وهو يقول:
-ماذا قلت لك؟ ألا تصغي لي أبدًا "لوكاس"؟
لم تحد عيناي عن فوهة السلاح، وذاك الحقير يجيبه:
-أترى ما تفعله؟ لنقتلها، ولا داعي للسلام الوهمي بين العائلتين، كلهم يستحقون الموت، حتى أمها الدمية الوضيعة.
نظرة سريعة سددتها نحو ذراع "فيجو" حين قبض على رسغه ليجبره على رفع يده بعيدًا، وسط وابل لعناته القذرة التي طالت من عائلتي اللطيفة، رأيته يشد على يده حتى لا تنفلت طلقة غادرة منه، وتصيبني في مقتل، خاصة مع وجودي في مرمى سلاحه.. تنبهت لصوته من جديد وهو يزأر:
-ماذا قال لك أبي؟ أتعصى الرئيس "مكسيم"؟
أجابه بنبرته المنفعلة:
-لا.. ولكنه أبي، أريد الثأر لأجله!
لعنات، وإهانات، وتوعدات بالموت المحتوم لم أستطع تحملها، إن كانت نهايتي قد حانت، إذًا فلتكن بيدي، وقتما أشاء، وليس بأياديهما النجسة، الملوثة بالدماء. صرخت فيهما بجنونٍ قبل أن استدير للخلف:
-اللعنة عليكما.
توقفا عن الجدال لينظرا نحوي، لكني شرعت بالركض بأقصى ما أستطيع لنهاية الممر الخشبي، حيث فكرت في القفز في الخليج، لن تكون المياه ضحلة لألقى حتفي من قوة الارتطام، كما أني أجيد السباحة نوعًا ما، ليس كرياضية محترفة، لكني أعرف كيف أبقى على قيد الحياة، بسبب الدروس المكثفة التي تلقيتها فيها. غمغمت بصراخٍ مهدد، وأنا أصعد في خفة على حافة الحاجز لأثب عنه:
-لن تنالا مني، وسأحرق الأرض من تحتكما.
ارتطم جسدي بالمياه، وصرخت متأوهة من البرودة القارصة التي نالت من بدني فجأة، لكن لا يهم أي معاناة الآن، بدأت بتحريك ذراعاي وساقاي على أمل قطع مسافة كبيرة في أقل وقت ممكن، تنبهت لصوت ارتطامٍ آخر مصحوبًا بأمرٍ صارم:
-"لوكــاس"، أحضر اليخت للجهة الأخرى.
توقفت للحظة عن السباحة لأدير رأسي للخلف، وعندها رأيت "فيجو" يتبعني، اللعنة! كان محترفًا للغاية، يقطع أشواطًا في خفة وسرعة، حتمًا لن أتمكن من مجاراته إن كنا نشترك في سباقٍ واحد، واصلت السباحة بكامل طاقاتي لأفر منه، ومن كل تهديد قد ينالني، ومع هذا سمعت صوته يأمرني:
-انتظري، لا مهرب لكِ.
هتفت، وأنا ابتلع المياه:
-اللعنة عليكما.
ما زال يتبعني بسرعته الفائقة، وأنا ألهث من الإرهاق المؤلم الذي حل على أطرافي، آهٍ لو كنت أمارس السباحة باستمرار! لما شعرت باستنزاف قواي بتلك السرعة. صرخت فجأة حين شعرت بيدٍ تقبض على قدمي:
-يا إلهي!
اختلت حركاتي للحظة من قوة المسكة، وجذبني نحوه، ابتلعت قدرًا آخرًا من المياه في جوفي، وقد غمرت المياه رأسى، رفعتها للأعلى وأنا أسعل بحشرجة تأذى منها حلقي. تحررت من أصابعه؛ لكن اختلت حركاتي من فرط التوتر المرتعب، وكدت أغرق؛ لكنه حاوطني من الخلف ليسيطر عليّ، لم استسلم له سريعًا، بل قاومت بشراسةٍ، كثورٍ هائج، يقاتل من أجل إبقاء حياته، قبل أن يطال عنقه نصل سكين جزاره، وهذا آخر ما أذكره، حيث غامت الصور في عيناي، وتداخلت بشكلٍ مخيف ساحبة ذاك الظلام الحالك نحو عقلي، لأجد نفسي أسقط سريعُا فيه ظلمته التي اشتدت بلا هوادة .. !!

قراءة الفصول السابقة من رواية غير قابل للحب

  1. قراءة مقدمة الرواية
  2. قراءة الفصل الأول
  3. قراءة الفصل الثاني
google-playkhamsatmostaqltradent